قراءة في كتاب (العراق والصراع الناعم)

802

عرض : أحمد الغريفي

إسم الكتاب : العراق والصراع الناعم

إسم المؤلف : حسن الربيعي

عدد الصفحات : 168 القطع الوزيري

الناشر : دار قناديل ـ بغداد

الطبعة : الأولى 2019

كتابٌ مُميّز بعنوانه ، مُهم بمضمونه ، يضع النقاط على حروف فكرية كثيرة تتعلق بالهوية الثقافية للعراق والصراع الناعم الجاري على العراق وشعبه وثقافته .

فيُشير مؤلفه حسن الربيعي في بداية الكتاب إلى أن العالم يتغير وتتغير معه وسائل التفاهم والتخاصم بين الافراد والمجتمعات والدول وتتسابق العقول في ابتكار الجديد ، والمميز لغلبة الاخر والتفوق عليه ، هكذا هي طبيعة الحياة صراع دائم للهيمنة ، وفرض الوجود بمُختلف الوسائل والادوات وسُبل المواجهة بين (ظاهرة ، وباطنة) و(خشنة ، وناعمة) وبين جانب مُحق ، وعادل وآخر غاشم وظالم ، مما جَعَل طرائق التفكير تتنوع ، وَتَتَفاوت الخُطط بين قريبة الأجل ، إلى مُتوسّطة ، ثم بَعيدة الأجل .

وَسَعَت الولايات المتحدة الأمريكية في عصرنا الحالي للتفرّد وَالهيمنة بالقرار الدولي والنظام الاقتصادي العالمي عبر مُنظمات أمَميّة تم تأسيسها لهذا الغرض ، وجَمَعَت لأجلها حُلفاء وَمُناصرين لمواجهة الخصوم والمناوئين والأعداء ، وكانت القوة العسكرية والى زمن قريب خياراً مُتقدماً في أولوياتها لتحقيق أهداف سياستها الخارجية ، إلا أن مُتغيرات حَصلت في العالم أدت إلى تقدم خيار القوة الناعمة على بقية الخيارات عند صانع القرار الامريكي ضمن استراتيجية العولمة التي تتطلب نشر القيم الأمريكية والسيطرة على المواقع الأولى في العالم باختيار الوسائل والادوات التي تحقق قدراً عالياً من الجاذبية والقبول لدى الفئات المُستهدفة بكُلفة مالية مُنخفضة بما يُخفف من أعباء الميزانية المالية المُخصّصة للسياسة الخارجية مع سعة الأهداف المُتحققة، مما دَفَع لتَصاعُد الاهتمام بالقوة الناعمة عند رَسم الخُطط الاستراتيجية كما جاء بتقرير مجلس الاستخبارات الوطني الصادر عام 2012 عند تحديد الاولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة لعام 2030م .

وشهد مفهوم القوة الناعمة تألقاً عند نهاية القرن المنصرم واصبح موضع اهتمام الدوائر السياسية والثقافية والأمنية والعسكرية والأكاديميين والنخب في دول عدة ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية التي أنتج مفكروها فلسفة المفهوم بأبعاده المختلفة، ولم يدخل المفهوم حيز التداول في البلدان العربية والاسلامية إلا مؤخراً عند تنبه النخب والسياسيين والقادة لهذا المفهوم فأصبح محل اهتمام الدوائر المختصة ووسائل الاعلام الواعية وبدأت الندوات وملتقيات الحوار تتداوله بالبحث والتمحيص .

ويطرح المؤلف تعريفه الآتي للقوة الناعمة :

 القدرة التي تمتلكها دولة أو مجموعة، بهدف إحداث تأثير في سلوك واتجاهات مجتمع محدد، لتغيير أو تعزيز نسيجه الثقافي والقيمي والحضاري، عبر جذبه أو استمالته نحو مسار محدد بشكل تدريجي ومخطط له، وتكون ذات طبيعة لا عنفية ولا تتضمن (القدرة على الإرغام) ، وقد تتجلى بشكل ظاهر أو مُتواري .

وبعد شيوع مفهوم القوة الناعمة بدأ يتنامى مفهوم الحرب الناعمة في الميدان السياسي لا سيما عند تطور المواجهات وتوتر العلاقات بين الدول وتحديداً عند دخول الولايات المتحدة الامريكية بعداء واضح مع الجمهورية الإسلامية في ايران وتصاعد وتيرة المواجهات الكلامية بينهُما ، فطرحت المقالات والدراسات والكتب بهذا الصدد ، وما زالت مراكز البحوث والدراسات ووسائل الاعلام تتناول مختلف الآراء والتوجهات عن الحرب الناعمة .

وتمثل الحرب الناعمة تحولاً في طبيعة الصراعات الدولية، ومسارها، وهي حالة واقعية وتجري في مجالات متعددة، إلا أن التنظير لها لم يصل إلى مستوى النضج العلمي ، وما زال الجدال حولها قائماً بين المنظرين والكتّاب . وطرح الأمريكيون كثيراً من الدراسات ، والإصدارات المتخصصة التي أثارت إشكاليات حول مفهوم الحرب الناعمة إذ يعتقدون بأن الإيرانيين سوقوا هذا المفهوم بمهارة، وذكاء لتمرير الدعاية المضادة، وتقوية جبهتهم الداخلية.

ولم يكن مصطلح الحرب الناعمة مألوفا في الأذهان ، على الأقل على المستوى الجماهيري في منطقة الشرق الوسط حتى جرى تداوله على نطاق واسع بعد انتخابات الرئاسة الإيرانية عام 2009 لا سيما المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي “دام ظله الوارف”.

ويُشير المؤلف في بداية كتابه إلى خصوصية العراق عنوان البحث وعلاقته بالموضوع الثقافي أن الحضارة العراقية هي من أعرق الحضارات الانسانية المعروفة ، فلموقعه الجغرافي أثر في حياة الانسان وسير حضارته سواء من ناحية البيئة والمناخ والزراعة والحياة الاقتصادية ام من ناحية التركيبة السكانية التأريخية وامتداداته واتصالاته بالأقطار المجاورة والمحيطة به الى غير ذلك مما للموقع الطبيعي من نتائج مؤثرة في حركة التأريخ والحضارة وذلك صراع طويل خاضه الانسان العراقي القديم ضد تحدي الطبيعة وكان دوره حاسماً في التغلب على البيئة وتسخيرها لخدمته .

ويظهر للباحثين ان السومريين وضعوا الأسُس الاولى والراسخة للحضارة الانسانية في جانبها المادي والروحي ، ومن ابرز نتاجاتهم الكتابة وتشريع القوانين والعلوم والطب والصناعات والحرف والعمارة والري وكذلك الدين والقيم الاخلاقية والفكرية والآداب والفنون وغيرها .

وحول مُميزات الهوية الحضارية العراقية يُشير المؤلف حسن الربيعي إلى الهوية الحضارية في وادي الرافدين اتصفت بالتميز الثقافي والمدنية والرفاه الاقتصادي وغيرها من السمات الجاذبة للناس من بقاع الارض كافة ، وعلى الرغم من تواصل الحضارة العراقية مع الحضارات الأخرى استطاعت المدنية العراقية القديمة أن تحافظ على هويتها الثقافية والحضارية ، وكان تفاعلها مع الحضارات الاخرى تفاعلاً إيجابياً باستثمار الخبرات المتراكمة في بناء النظم والأنساق الاجتماعية التي تؤهلها للاستمرار والتطور وقامت الحضارة العراقية القديمة على مثل ذلك الاستثمار الذي اهلها لإنشاء حضارة اتسمت بالخلود على مر الزمن وما زال يشار لها بالبنان بعد مرور أكثر من ستة آلاف عام على نشوئها .

وفي التفاتة مُهمة حول اعتزاز العراقيين بقيمهم الحضارية الاسلامية والاجتماعية والقبلية يُذكّر المؤلف الربيعي بارتباط تأريخ هذا الاعتزاز بميلاد النبي ابراهيم “ع” ومسيرة الكثير من الانبياء “عليهم السلام” ، مثال ذلك الأنبياء آدم ونوح وهود وصالح وذي الكفل وسليمان وأيوب ويونس وحزقيل ودانيال وغيرهم ولكثير من مراقد وأضرحة أئمة المسلمين عليهم السلام كالإمام علي بن أبي طالب والامام الحسين وأخيه ابي الفضل العباس والامامين الكاظمين والامامين العسكريين وموقع غيبة الامام المهدي والامام عبد القادر الكيلاني والامام ابي حنيفة النعمان وكثير من مراقد ومقامات أولاد الأئمة وصحابتهم وأتباعهم .

ويأمل الكثير من العراقيون ومعهم الكثير من المؤمنين والحكماء والمفكرين التواقين لبسط الامن والقسط والعدل ليحل السلام بين جميع البشر على يد المنقذ الموعود (الامام المهدي عليه السلام) ويترقبون عودة السيد المسيح عليه السلام لينطلقا من أرض العراق لبناء الحضارة الخاتمة التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً . إذ ستكون نقطة الانطلاق إلى فتح العالم هي مدينة الكوفة من العراق ، وستكون في المدى القريب عاصمة الدولة العالمية وأنها ستكون شاملة لجميع الناس وتعم المجتمع البشري كله .

العراق في صميم العولمة ..

يُشير المؤلف إلى أن العراق ظل ولفترة طويلة من الزمن بعيداً عن المتغيرات والتطورات الدولية بسبب الإنغلاق الذي فرضته السلطات الحاكمة لعدة عقود ، مما أتاح لهُ الابتعاد النسبي عن العولمة وتأثيراتها المختلفة ، إلا أن عدة متغيرات حصلت أدت إلى كسر طوق الانعزال الدولي وفتحت باب العراق على مصراعيه مشاريع العولمة الأمريكية ، وتمثلت هذه المتغيرات بثلاث مُتغيرات أساسية هي :

ـ المُتغير الدولي .

ـ المُتغير الحركي المُتمثل بالإرهاب .

ـ المُتغير الداخلي .

حيث كان لهذه المُتغيرات كما يؤكد المؤلف حسن الربيعي تأثيراً كبيراً في كسر طوق الانعزال الدولي للعراق وفتح أبوابه أمام مشاريع العولمة الامريكية وقواها الناعمة الجاذبة لشرائح المجتمع المتنوعة وخاصة فئة الشباب ، مما وضع المجتمع العراقي على أعتاب قبة جديدة من المتوقع ان تؤدي الى تغيرات اجتماعية وسلوكية مُتعددة ومتنوعة .

العراق والقوة الناعمة الامريكية

في هذا الفصل يُبين المؤلف طبيعة العلاقة بين القوة الناعمة الامريكية والعراق ومُحاولة التأثير عليه وجذبه نحوها باستخدام قواها الناعمة ، فقد سعت الولايات المتحدة الامريكية الى تشكيل حالة من التحالف السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني مع العراق على مُستويات مُختلفة لمرحلة ما بعد انسحاب القوات الامريكية عام 2011 لا سيما ان العراق من وجهة النظر الامريكية يُعد قوة ذات ثقل سياسي يصعب تجاوزه ضمن مديات إقليم الشرق الأوسط ، خاصة إذا ما أعيد تأهيل دوره وضبط سلوك نظامه السياسي في إطار علاقات التعاون أو مُعادلة التأثير الأمريكي مما سيجعل حلقة حُلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في الإقليم مُكتملة من الناحية الجيوستراتيجية ، الأمر الذي يُعزز المصالح والخيارات الاستراتيجية المُستقبلية للولايات المتحدة الامريكية في الشرق الاوسط ولا سيما في العراق من حيث صياغة ترتيبات أو تفاهمات لتشكيل على أسس العلاقة ما بين العراق والولايات المتحدة الامريكية ، وبناءً على ذلك فقد استخدمت الولايات المتحدة الامريكية ادوات قوتها الناعمة في العراق منذ الايام الاولى للاحتلال عام 2003 بهدف التأثير على المجتمع العراقي بشكل عام وخصوصاً فئة الشباب .

ومن أهم الوسائل المستخدمة لهذا الغرض هي مُنظمات المجتمع المدني التي نفذت عدة برامج تحمل عناوين ثقافية وتنموية وتأهيلية وبتمويل من جهات امريكية مُختلفة والزمالات والمنح الدراسية الأمريكية المُقدمة للطلبة والباحثين والعراقيين والاعلام والقنوات الفضائية والاذاعية الموجهة والمواقع الالكترونية ومحركات البحث العالمية الموجهة ووسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة الانترنت والهواتف الذكية المزودة بتطبيقات مجانية وشبه مجانية والتي تتيح التواصل في أي زمان ومكان ، والبرامج التدريبية للمختصين في مجالات مُتعددة والمؤتمرات ووِرَش العمل المُختلفة التوجهات التي شارك بها مُستويات نخبوية وطلابية وشبابية ، والعلامات التجارية للمطاعم والملابس والمواد الاستهلاكية . وفتح باب الهجرة لشرائح إجتماعية مُختلفة والعديد من العراقيين المُتأثرين بالقيم الأمريكية الذين ساهموا بالترويج لنموذجها الثقافي .

الغزو الثقافي

وفي هذا الفصل يوضح المؤلف أن ما يُقصد بالغزو الثقافي هو مواجهة الآخر ومُحاولة القضاء عليه وتغيير محتواه الثقافي والقيمي والمجتمعي بوسائل وطرائق وآليات غير مباشرة كالكلمة والفكرة والرأي ونظريات تقانة السلوك الانساني ويسمى احياناً بالغزو الفكري ، ويشير الى الجهود والممارسات التي يبذلها طرف بحق طرف آخر او بحق امم بُغية السيطرة عليها بطريقة غير عسكرية ، وهو أكثر خطورة من الغزو العسكري لانتهاجه السرية والغموض في عمله وهو داء فتاك ينهش في الامم ويفكك شخصيتها ويخفي معالم الاصالة والقوة فيها ، ويهدف بالدرجة الاولى الة الاستحواذ على العقل فيتخذ اسلوباً خفياً مقبولاً بما يتماشى مع اهواء الانسان . وتحتل قيم المجتمعات المرتبة الاولى في اهدافه إذ يسعى جهاداً لتشكيل قيم عالمية تحد من التباين بين المجتمعات ، وتلغي الاصالة وتحبذ المعاصرة وتؤكد عليها .

ونال العراق وقيمه الاصيلة الحظ الاوفر فنلحظ ان كثيراً من القيم اصابها التصدع وبعضها تفككت بفعل السيل العارم من الافكار الوافدة والضغوط بمختلف اشكالها والفجوة المتزايدة بين العائلة وابنائها تحت شعار الازاحة الجيلية ، ولا يخفى على المتخصص أن أمثال الشعوب ، وقيمهم المتوارثة ، والموروث النظري الرصين هو الاساس في تشكيل ثقافة المجتمعات ، وعند التمحيص بنظريات السمات لمختلف علماء النفس الاجتماعي نجدهُم يؤكدون على السمات المصدرية والسمات الثانوية ، وعند مُراجعة الارث الحضاري العربي نجد أن السمات هي نفسها (الشِيَم) فالعربيّ صاحب شِيمَة وَيَتَفاخَر بها وَيَعتَزّ بما لَدَيهِ مِنها ، فهي أساسٌ من أسُس عروبته فكيف بالعراقي الذي تربى على مجموعة كبيرة من الشيَم التي شكلت شخصية أبيه وأجداده ولكنّه ولقدرة الغزو الثقافي وتنوع وسائله قد تغافل عن بعضها وتماشى مع غيرها مع احتفاظه بالأصل منها كالقيم الروحية والقيم القبلية ، فالدين فطري لدى المواطن العراقي والقبيلة أساس من أسس موروثه الثقافي وهو يقترب من هاتين القيمتين ويبتعد بحسب قوة العائلة وتقارب ابناءها وما يتشاركون به من ممارسات .

ويسوق المؤلف في الجزء الأخير من كتابه مجموعة مُهمّة من نتائج التحليلات الاحصائية للمجتمع العراقي تؤكد ما ذهب إليه المؤلف بخصوص تأثير هذه القيم على شخصية وثقافة المواطن العراقي .

حيث استخدم المؤلف مقياساً لمعرفة التأثير الذي أحدثته القوة الناعمة الأمريكية بعد أربعة عشر عاماً من الصراع الناعم الامريكي العراقي ، وبعد صياغة فقرات المقياس باعتماد طريقة (ليكرت) الخماسية التي تتضمن خمسة (بدائل) هي (دائماً ، وغالباً ، وأحياناً ، ونادراً ، وأبداً) وتم تحديد اوزانها من (5) إلى (1) تصاعدياً او تنازلياً بما يتناسب مع منطوق الفقرة سلباً أو إيجاباً ، وتم تطبيق المقياس على عينة من الشباب العراقي اظهرت مجموعة استنتاجات كان اهمها :

ان القوة الناعمة الامريكية الموَجّهَة نَحوَ المُجتمع العراقي وفئة الشباب تحديداً اثرت سلبياً في سلوكهم واتجاهاتهم واحدثت تأثيراً نسبياً في القيم الحضارية ورافق ذلك تأثيرات إيجابية بسيطة . وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية وتماشياً مع استراتيجية العولمة إلى إقامة مُجتمع مدني عالمي مفتوح بعيداً عن المفاهيم والهوية الوطنية ، ويعتبر المجتمع العراقي هدفاً أساسياً لها ، وحققت نجاحاً نسبياً في ذلك مما يشكل تهديداً على بناء الدولة العراقية ومُستقبلها .

وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى استقطاب النخب والكفاءات العلمية في بلدان العالم عبر فتح الزمالات والمنح الدراسية لإعدادهم واستثمارهم في نشر قيمها ونمطها الثقافي على حساب الثقافة والحضارة المحلية وإحداث فجوة بين الشعوب وعمقها الحضاري تمهيداً لدمجها مع النمط الأمريكي للتحكم بسياساتها ومقدراتها وحققت نجاحاً واضحاً بجذب واستمالة عدد كبير من العراقيين مما يشكل خطراً على التوجهات السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع والدولة بشكل عام .

ويؤكد المؤلف الربيعي على أهمية التفريق بين مفهومي (القوة الناعمة) و(الحرب الناعمة) لأن الأول يُمكن استخدامه لصالح المجتمع إذا ما أحسنت النخب والمؤسسات الرسمية التعامل مع مصادرها المحلية ، كما يُمكن ان يُستخدم ضده إذا تراجع الاهتمام المحلي ونشط الاستهداف من قبل الخصوم ، بينما يُشير مفهوم الحرب الناعمة الى استخدام القوة الناعمة للإضرار بالمُجتمع المُستهدف .

وتكمن خطورة الصراعات والحروب الناعمة في أنها توجه قوتها تدريجياً إلى اللاوعي لتنفذ إلى النفوس وتجذب القلوب وتكسب العقول وتؤثر في نمط التفكير، وتتدخل بالتنشئة الاجتماعية للأفراد عبر تغييرها لسلوكهم وتوجهاتهم وتشكيل هويتهم الذاتية والاجتماعية، وفي الأمد البعيد تعمل على تغيير قيمهم الحضارية بشكل تدريجي ومخطط دون أن تلفت الأنظار، مستخدمة وسائل ذكية ذات طبيعة لا عنفية ومحببة لدى الفئة المستهدفة، وهذا النهج يتماشى مع التوجهات الحديثة لعلم النفس الاجتماعي التي تعمل على تغيير السلوك والعادات التي تفضي إلى تغيير التوجهات، ومن ثم تغيير تدريجي للقيم.

وبحسب نهج الصراعات والحروب الناعمة المشار إليه آنفا فأنها ستكون مغايرة لما أطلق عليه بـالغزو الثقافي الذي كان يواجه قيم المجتمع المستهدف بطريقة مباشرة وصدامية وواضحة.

وان اصالة القيم الحضارية العراقية وصلابتها و(المتمثلة بالقيم الدينية والقيم الاجتماعية الثقافية والقيم القبلية) قلل من تأثيرات القوة الناعمة الأمريكية .

وهذه النتيجة مهمة للغاية وينبغي على أثرها إعادة تقييم الشخصية العراقية وفقاً لمعايير تعتمد الإحصاء والبيانات والمناهج العلمية الرصينة، فقد تبين لنا صلابتها وتمسكها بقيمها لا سيما الدينية كما أنها على درجة عالية من الاعتداد بالنفس ومرونة في تغيير السلوك، إنها تشابه بشكل كبير صفات النخلة العراقية الأصيلة ذات الجذور الثابتة والجذوع الشامخة والسعف المتمايل مع الريح ذات اليمين وذات الشمال مما جعلها تقاوم تقلب الظروف البيئية وتحافظ على بقائها وديمومتها ومصاحبتها للعراقيين منذ فجر التأريخ وإلى يومنا هذا. ويمكننا أن نطلق على هذه الصفة بـ(التوافق الاحتوائي) فالشخصية العراقية تخوض صراعاً مستمراً بين قيمها الأصيلة والقيم الوافدة على مر العصور ولم تفقد أصالتها وصلتها بعمقها الحضاري، وقد تكون مرونة السلوك واحدة من أهم الأدوات التي ساعدت على تقليل وطأة الصراع وتخفيف آثاره، كما أن التراكم الحضاري له دور كبير في ترسيخ صفة التوافق الاحتوائي لإنتاج شخصية مكافحة صبورة لها القدرة على مقاومة تقلب الظروف البيئية والاجتماعية وقساوتها في أغلب الأحيان والمحافظة على أصالتها وديمومتها.

وأحدثت القوة الناعمة الأمريكية صراعاً قيمياً أدى إلى إنقسام طلبة الجامعة الى ثلاثة اقسام مُتقاربة في نسبتها ، القسم الاول تأثر وإنجذب نحو النموذج الامريكي ، والقسم الثاني ما زال مُتردداً بحسم توجهه ، أما القسم الثالث فمُحافظ على عمقه القيمي وثبات سلوكه الحضاري ، وإذا استمر هذا الصراع على نفس الوتيرة فمن المرجح ان يميل القسم الثاني بإتجاه القسم الاول ويُعاد تشكيل السلوك الحضاري والهوية الاجتماعية مبتعداً عن العمق القيمي العراقي ومُقترباً من النموذج الثقافي الامريكي ، أي أن المُجتمع العراقي يخوض صراعاً ناعماً مع الولايات المتحدة الأمريكية سينتج (سلوكاً) إجتماعياً مُتغيراً وَمُتحركاً ، وليس شخصية مُتناقضة ، وَيُعمّق ظاهرة التناشز الإجتماعي البشرية ، فهي ليست حكراً على (الشخصية العراقية) والشواهد كثيرة وهي متواجدة في عموم الشخصيات وفي مختلف بقاع المعمورة .

أما سبل مواجهة الصراع الناعم فيجملها المؤلف بالآتي :

ـ تكثيف البحوث والدراسات في مجال الصراع الناعم والحرب الناعمة لتسليط الضوء على تأثيراتها الآنية والمستقبلية .

ـ تفعيل دور النخب بنشر ثقافة الإنتماء الوطني والتكاتف المجتمعي والتطور الحضاري.

ـ تأسيس مراكز دراسات ومجالس ومنتديات علمية متخصصة في مجال القوة الناعمة لرصد وتحليل القوى المؤثرة على مختلف الشرائح الاجتماعية، وتقوية المقاومة الاجتماعية وتفعيل القدرات الشخصية الكامنة للمحافظة على القيم الحضارية الأصيلة ، والعمل على تفعيل واستخدام القوة الناعمة الوطنية ، وطرح الخطط والآليات المناسبة لتحويل التهديدات إلى فرص وحسم الصراع الناعم لصالح المجتمع العراقي .

ـ دعوة مؤسّسات الدولة للقيام بواجبها الوطني لرسم سياسة البلاد بما يحقق المحافظة على القيم الحضارية وحماية السلوك الحضاري ، ومواجهة القوة الناعمة الأمريكية وغيرها.

ـ العمل على مُعالجة مظاهر الخلل في البنية الداخلية للدولة من خلال التعرض للمشكلات المجتمعية كالبطالة، الفقر، الصحة ، التعليم ومُكافحة الأمية ، للنهوض بالمجتمع وتحقيق التنمية الاجتماعية.

ـ تكثيف الإهتمام بالمناهج التعليمية والتثقيفية وترسيخ التأصيل الحضاري في جميع المراحل الدراسية . وإستثمار الوسائل والأدوات التربوية والثقافية في العراق ؛ لإطلاق المشروع الثقافي النهضوي لمواجهة التحديات والصراعات المستمرة.

ـ إستثمار الدور الذي تلعبه المرجعيات الدينية في الجانب الاجتماعي وتكثيف الاهتمام بالأطفال والشباب والمرأة وتحصينهم ضد القيم السلبية الوافدة. ودعوة رؤساء القبائل وشيوخ العشائر للعمل على إدخال إصلاحات على العادات والتقاليد التي لم تعد مُناسبة وتعرقل الانسجام مع التطور العالمي ، واستثمار كفاياتهم العلمية الثقافية بتوثيق انتماء أبناء المجتمع لقيمهم الأصيلة ؛ لأن القبائل في العراق تمثل قيمة حضارية أصيلة، وليست كما يصورها البعض بأنها امتداد مُستمر للبداوة.

ـ دعوة العوائل لزيادة الاهتمام بعملية التنشئة الاجتماعية بالتعاون مع المختصين في مجال العمل الاجتماعي .

ـ دعوة الجامعات لتوسيع القبول في الدراسات العليا للخدمة الاجتماعية وفتح تخصص إدارة العمل الاجتماعي في الدراسات العليا لأهمية هذه الاختصاصات في تنظيم المجتمع وحماية سلوكه الحضاري.

ـ تفعيل دور مؤسسات العمل والخدمة الاجتماعية وتطوير الأخصائيين الاجتماعيين للمساهمة في زيادة الوعي الوطني وترصين القيم الاجتماعية وحمايتها أمام موجات العولمة بمختلف توصيفاتها الثقافية والإعلامية والسياسية والاقتصادية وغيرها. ـ مراقبة عمل المنظمات الدولية في العراق والوطن العربي وخصوصاً التي لها فعاليات ثقافية وسياسية .

التعليقات مغلقة.